فصل: (فَصْلٌ): (فيمَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى بَنِيهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(فَصْلٌ): [فيمَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى بَنِيهِ]:

(مَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَهُوَ لِذُكُورٍ خَاصَّةً) لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنِينَ وُضِعَ لِذَلِكَ حَقِيقَةً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} وَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} وقَوْله تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (فَلَا يَدْخُلُ) فِيهِ (خُنْثَى) لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ عَلَى بَنَاتِهِ؛ اخْتَصَّ بِهِنَّ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَلَا الْخَنَاثَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُنَّ إنَاثًا (وَإِنْ كَانُوا) أَيْ: بَنُو فُلَانٍ (قَبِيلَةً) كَبِيرَةً.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: كَبَنِي هَاشِمٍ وَتَمِيمٍ وَقُضَاعَةَ (دَخَلَ) فِيهِ (إنَاثٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَلِأَنَّ الْقَبِيلَةَ يَشْمَلُ ذَكَرَهَا وَأُنْثَاهَا، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي كَذَا، رُوِيَ أَنَّ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قُلْنَ: نَحْنُ جِوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَا حَبَّذَا مُحَمَّدًا مِنْ جَارِ. (دُونَ أَوْلَادِهِنَّ) أَيْ: نِسَاءِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ (مِنْ) رِجَالٍ (غَيْرِهَا) لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَى الْقَبِيلَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا، بَلْ إلَى غَيْرِهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ، وَيَدْخُلُ أَوْلَادُهُنَّ مِنْهُمْ؛ لِوُجُودِ الِانْتِسَابِ حَقِيقَةً، وَلَا يَشْمَلُ مَوَالِيَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ حَقِيقَةً، كَمَا لَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ.
قَالَ فِي الْخِلَافِ: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا لَفْظُ الْمُوصِي، وَلَفْظُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ: لَا أَكَلْتُ السُّكَّرَ لِأَنَّهُ حَلَفَ؛ لَمْ يَعُمَّ غَيْرَهُ [مِنْ الْحَلَاوَاتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ؛ لَمْ يُعْتَقْ غَيْرُهُ] مِنْ الْعَبِيدِ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ حَرَّمَ السُّكَّرَ؛ لِأَنَّهُ حُلْوٌ، عَمَّ جَمِيعَ الْحَلَاوَاتِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: اعْتِقْ عَبْدَك لِأَنَّهُ أَسْوَدُ؛ عَمَّ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ فِي شَرْحِ شَرْحِ الْمُنْتَهَى: فَكَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَصِيَّةِ لَفْظُ الْمُوصِي يُعْتَبَرُ فِي الْوَقْفِ لَفْظُ الْوَاقِفِ، وَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَدَمَ دُخُولِ الْمَوَالِي.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى عِتْرَتِهِ أَوْ) عَلَى (عَشِيرَتِهِ) بِأَنْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى عِتْرَتِي (فَكَ) مَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى (الْقَبِيلَةِ).
قَالَ فِي الْمُقْنِعِ: الْعِتْرَةُ هُمْ الْعَشِيرَةُ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: هَذَا الْمَذْهَبُ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ وَالْفُرُوعِ وَالْفَائِقِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَحَّحَهُ النَّاظِمُ، وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ انْتَهَى.
لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَحْفِلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْنُ عِتْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْضَتُهُ الَّتِي تَفَقَّأَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ. وَإِنْ وَقَفَ (عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ) عَلَى (قَرَابَةِ زَيْدٍ) فَهُوَ أَيْ: الْوَقْفُ (لِذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَبِيهِ) وَهُمْ إخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ وَأَوْلَادِ جَدِّهِ، وَهُمْ أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ. وَأَوْلَادِ جَدِّ أَبِيهِ، وَهُمْ جَدُّهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ (فَقَطْ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} فَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا، وَلَا يُقَالُ: هُمَا كَبَنِي الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سِوَاهُمْ مِمَّنْ سَاوَاهُمْ فِي الْقُرْبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، وَلَمْ يُعْطِ قَرَابَتَهُ مِنْ وَلَدِ أُمِّهِ، وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا مِنْهُ، وَيُسَوِّي بَيْنَ مَنْ يُعْطِي مِنْهُمْ؛ فَلَا يُفَضِّلُ أَعْلَى وَلَا فَقِيرًا وَلَا ذَكَرًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ؛ لِعُمُومِ الْقَرَابَةِ. (وَلَا يَدْخُلُ) فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ (مُخَالِفٌ دِينَهُ) أَيْ: الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ فِي قَرَابَتِهِ كَافِرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْلِمُ إلَّا بِقَرِينَةٍ؛ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا (وَلَا) يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى قَرَابَتِهِ (أُمُّهُ أَوْ قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِهَا) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى قَرَابَتَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ شَيْئًا (إلَّا بِقَرِينَةٍ) أَيْ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي لَفْظِ الْوَاقِفِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الدُّخُولِ (كَتَفْضِيلِ جِهَةِ قَرَابَةٍ) مِنْ جِهَةِ أَبٍ عَلَى قَرَابَةٍ مِنْ جِهَةِ (أُمٍّ أَوْ قَوْلِهِ)؛ أَيْ الْوَاقِفِ (إلَّا ابْنَ خَالَتِي فُلَانًا) وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْقَرِينَةِ، أَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تُخْرِجُ بَعْضَهُمْ؛ عُمِلَ بِهَا، وَيَأْتِي فِي الْوَصَايَا حُكْمُ أَقْرَبِ قَرَابَتِهِ أَوْ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ مُفَصَّلًا. وَالْوَقْفُ مِنْ إنْسَانٍ (عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ) عَلَى (قَوْمِهِ أَوْ) عَلَى (نِسَائِهِ أَوْ) عَلَى (آلِهِ أَوْ) عَلَى (أَهْلِهِ كَعَلَى قَرَابَتِهِ) فَلِكُلِّ قَرَابَةٍ، أَمَّا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِي وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِي» وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ». فَجُعِلَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ ذُو الْقُرْبَى الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ. احْتَجَّ بِذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ عِنْدَ الْعَرَبِ آبَاءُ الرَّجُلِ وَأَوْلَادُهُمْ، كَالْأَجْدَادِ وَالْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِهِمْ (وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ) فَإِنَّهُ يَكُونُ (لِكُلِّ قَرَابَةٍ لَهُ) أَيْ: لِلْوَاقِفِ (مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ) سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً كَالْآبَاءِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، أَوْ لَا، كَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْعَمِّ، وَلِكُلِّ قَرَابَةٍ مِنْ جِهَةِ (الْأُمَّهَاتِ) كَأُمِّهِ وَأَبِيهَا وَأَخْوَالِهِ وَأَخْوَالِهَا وَخَالَاتِهِ وَخَالَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مُرَجِّحًا؛ فَلَا أَقَلَّ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا، وَلِكُلِّ قَرَابَةٍ لَهُ مِنْ جِهَةِ (الْأَوْلَادِ مِمَّنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ أَوْ رَحِمٍ) كَابْنِهِ وَبِنْتِهِ وَأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ الرَّحِمَ يَشْمَلُهُمْ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ذِي الرَّحِمِ مُجَاوَزَتَهُ لِلْأَبِ الْخَامِسِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَنْ يَذْكُرُهُ، بَلْ عُمُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَشْمَلُهُ. (وَالْأَشْرَافُ أَهْلُ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّرِيفُ كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْعَبَّاسِيَّ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا لَا يُسَمُّونَ شَرِيفًا إلَّا مَنْ كَانَ عَلَوِيًّا، بَلْ لَا يُسَمُّونَ شَرِيفًا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى آلِ جَعْفَرٍ وَآلِ عَلَيَّ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفْتَيْتُ أَنَا وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ أَعْيَانِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَفْتَى طَائِفَةٌ أَنَّهُ يُقَسَّمُ نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ آلُ جَعْفَرٍ النِّصْفَ وَإِنْ كَانُوا وَاحِدًا، وَهُوَ مُقْتَضَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا انْتَهَى.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: قُلْتُ: هُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ. (وَالْأَيَامَى وَالْعُزَّابُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَيُقَالُ رَجُلٌ عَزَبٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبٌ.
قَالَ ثَعْلَبٌ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَزَبًا؛ لِانْفِرَادِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ انْفَرَدَ فَهُوَ عَزَبٌ. وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: أَعْزَبُ، وَرُدَّ بِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَكُنْت شَابًّا أَعْزَبَ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالْعَزَبُ وَالْأَيِّمُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ (وَالْأَرَامِلُ النِّسَاءُ اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ (بِمَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ) قَالَ جَرِيرٌ: هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْتُ حَاجَتَهَا فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذِهِ الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ فَأَطْلَقَ الْأَوَّلَ حَيْثُ أَرَادَ بِهِ الْإِنَاثَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَهُ، وَوَصَفَهُ فِي الثَّانِي بِالذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَمْ يُفْهَمْ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي: الصَّغِيرَةُ لَا تُسَمَّى أَيِّمًا وَلَا أَرَمَلَةً عُرْفًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ صِفَةٌ لِلْبَالِغِ (وَالْيَتَامَى مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ) مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (وَلَوْ جَهِلَ بَقَاءَ أَبِيهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ) فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ. (وَيَتَّجِهُ) أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْأَبِ إلَّا فِي صُورَةِ (غَيْبَةِ) الْأَبِ غِيبَةً ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ، بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْحَاكِمِ لَحَكَمَ بِمَوْتِهِ؛ كَمَنْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ أَوْ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ انْقَطَعَ بِفَلَاةٍ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعُ سِنِينَ فَمَا فَوْقُ مِنْ حِينِ فَقْدِهِ، أَوْ غَابَ غَيْبَةً ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ مَضَى مِنْ سِنِّهِ تِسْعُونَ سَنَةً؛ فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ (تَتَزَوَّجُ فِيهَا) أَيْ: الْغَيْبَةِ (نِسَاؤُهُ) وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِمَوْتِهِ، فَطِفْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْيَتِيمِ؛ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (وَلَا يَشْمَلُ) الْوَقْفُ عَلَى الْيَتَامَى (وَلَدَ زِنًا) لِأَنَّ لِلْيَتِيمِ انْكِسَارًا يَدْخُلُ عَلَى الْقَلْبِ بِفَقْدِ الْأَبِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ بَلَغَ: خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْيَتِيمِ. (وَالْحَفِيدُ وَالسِّبْطُ: وَلَدُ ابْنٍ وَبِنْتٍ) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: (وَالرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ رِجَالٍ) خَاصَّةً لُغَةً لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، أَوْ الْجَمْعُ أَرْهُطٌ وَأَرْهَاطٌ وَأَرَاهِطُ وَأَرَاهِيطُ، وَقَالَ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ: الرَّهْطُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَكَذَا قَالَ النَّفَرُ: مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى عَشَرَةٍ قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ. (وَالْقَوْمُ لِلرِّجَالِ) دُونَ النِّسَاءِ (وَبِكْرٌ) يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (وَثَيِّبٌ) كَذَلِكَ (وَعَانِسٌ) كَذَلِكَ، وَهُوَ مَنْ بَلَغَ حَدَّ التَّزْوِيجِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ (وَأُخُوَّةٌ)- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ- (وَعُمُومَةٌ لِذَكَرٍ وَأُنْثَى) وَالْأَخَوَاتُ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً (وَالثُّيُوبَةُ زَوَالُ الْبَكَارَةِ) بِالْوَطْءِ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًا، لَا زَوَالُهَا بِنَحْوِ إصْبَعٍ (وَ) إنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ (لِجَمَاعَةٍ) مِنْ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ (أَوْ) هَذَا وَقْفٌ (لِجَمْعٍ مِنْ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ، فَثَلَاثَةٌ) لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ (فَإِنْ لَمْ يَفِ الدَّرَجَةَ الْأُولَى) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَلَاثَةٌ؛ كَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدَانِ وَأَوْلَادُ ابْنٍ، تُمِّمَ الْجَمْعُ مِمَّا، أَيْ: مِنْ دَرَجَةِ الَّتِي (بَعْدَهَا) وَهُمْ أَوْلَادُ الِابْنِ، فَيُتَمَّمُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْرُجُ بِقُرْعَةٍ (وَيَشْمَلُ) الْجَمْعُ (أَهْلَ الدَّرَجَةِ، وَإِنْ كَثُرُوا) لِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ (وَالْعُلَمَاءُ حَمَلَةُ الشَّرْعِ) وَلَوْ أَغْنِيَاءً (وَقِيلَ: مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ) أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ: لَا ذَوُو أَدَبٍ وَنَحْوٍ وَلُغَةٍ وَصَرْفٍ وَعِلْمِ كَلَامٍ أَوْ طِبٍّ وَحِسَابٍ وَهَنْدَسَةٍ وَهَيْئَةٍ وَتَعْبِيرِ رُؤْيَا وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَإِقْرَائِهِ وَتَجْوِيدِهِ (وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ فُقَهَاءَ وَمُتَفَقِّهَةً كَعُلَمَاءَ) قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: قُلْت: مَدْلُولُ فُقَهَاءَ الْعُلَمَاءُ بِالْفِقْهِ وَالْمُتَفَقِّهَةُ طَلَبَةُ الْفِقْهِ (وَأَهْلُ الْحَدِيثِ مَنْ عَرَفَهُ، وَلَوْ حَفِظَ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا، لَا مَنْ سَمِعَهُ) مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ (وَالْقُرَّاءُ) فِي عُرْفِ هَذَا الزَّمَانِ (حُفَّاظُ الْقُرْآنِ) وَفِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ هُمْ الْفُقَهَاءُ (وَأَعْقَلُ النَّاسِ الزُّهَّادُ) لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ الْفَانِي لِلْبَاقِي (قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ تَرْكُ مَا يُقِيمُ النَّفْسَ، وَيُصْلِحُ أَمْرَهَا، وَيُعِينُهَا عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ، بَلْ هَذَا زُهْدُ الْجُهَّالِ، وَإِنَّمَا) هُوَ؛ أَيْ: الزُّهْدُ (تَرْكُ فُضُولِ الْعَيْشِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ بِضَرُورَةٍ فِي بَقَاءِ النَّفْسِ)؛ أَيْ: نَفْسِهِ وَنَفْسِ عِيَالِهِ (وَعَلَى هَذَا كَانَ) النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ».: وَإِنْ وَقَفَ (عَلَى مَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقُ) فَقَطْ، وَهُمْ أَعْتَقُوهُ؛ اُخْتُصَّ الْوَقْفُ بِهِمْ، أَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ أَسْفَلُ فَقَطْ، وَهُمْ عُتَقَاؤُهُ؛ اُخْتُصَّ الْوَقْفُ بِهِمْ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقُ، وَمَوَالٍ مِنْ أَسْفَلُ (تَنَاوَلَ) الْوَقْفُ (جَمِيعَهُمْ) وَاسْتَوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ إنْ لَمْ يَفْضُلْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْأَسْهُمَ تَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ (وَمَتَى عَدِمَ) أَيْ: انْقَرَضَ (مَوَالِيهِ) فَالْوَقْفُ (لِعَصَبَتِهِمْ)؛ أَيْ: عَصَبَةِ مَوَالِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ) حِينَ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى مَوَالِيَّ؛ فَالْوَقْفُ (لِمَوَالِي عَصَبَةٍ) لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُمْ مَجَازًا مَعَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إذْ ذَاكَ مَوَالٍ، ثُمَّ انْقَرَضُوا؛ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ الْوَقْفِ شَيْءٌ لِمَوَالِي عَصَبَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ تَنَاوَلَ غَيْرَهُمْ، فَلَا يَعُودُ إلَيْهِمْ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا شَيْءَ لِمَوَالِي عَصَبَةٍ إلَّا مَعَ عَدَمِ مَوَالِيهِ ابْتِدَاءً.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى إذَا اجْتَمَعَا فِي الذِّكْرِ. وَمَتَى كَانَ الْوَقْفُ (عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ) كَالْفُقَرَاءِ وَالرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ (لَمْ يَدْفَعْ لِوَاحِدٍ فَوْقَ حَاجَتِهِ) لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، فَيُعْطَى فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ تَمَامَ كِفَايَتِهِمَا مَعَ عَائِلَتِهِمَا سَنَةً، وَمُكَاتَبٌ وَغَارِمٌ مَا يَقْضِيَانِ دَيْنَهُمَا، وَابْنُ سَبِيلٍ مَا يَحْتَاجُهُ لِسَفَرِهِ، وَغَازٍ مَا يَحْتَاجُهُ لِغَزْوِهِ وَهَكَذَا، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ (عَلَى أَصْنَافِهَا) كُلِّهِمْ (فَوُجِدَ مَنْ فِيهِ صِفَاتٌ) بِأَنْ كَانَ ابْنَ سَبِيلٍ غَازِيًا غَارِمًا (اسْتَحَقَّ بِهَا)؛ أَيْ: بِالصِّفَاتِ كَالزَّكَاةِ، فَيُعْطَى مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، وَيُوَصِّلُهُ إلَى بَلَدِهِ، وَكِفَايَتَهُ ذَهَابًا وَإِيَابًا.
تَنْبِيهٌ:
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، أَوْ صِنْفَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَصْنَافِهَا، أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَسَاكِينِ؛ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ كَزَكَاةٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَقْصُودَ [الْوَاقِفِ] عَدَمُ مُجَاوَزَتِهِمْ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالدَّفْعِ إلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ بَلْ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُعْطَى فَقِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطَاهُ مِنْ زَكَاةٍ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهَا، وَتَقَدَّمَ.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى سُبُلِ الْخَيْرِ، فَلِمَنْ أَخَذَ مِنْ زَكَاةٍ لِحَاجَةٍ) كَفَقِيرٍ وَمِسْكِينٍ وَابْنِ سَبِيلٍ (لَا مُؤَلَّفٍ وَعَامِلٍ وَغَارِمٍ) فَلَا يُعْطُونَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَشْمَلُهُمْ وَإِنْ وَقَفَ (عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ) وَاسْتِيعَابُهُمْ كَبَنِيهِ أَوْ بَنِي فُلَانٍ، وَلَيْسُوا قَبِيلَةً أَوْ مَوَالِيَ غَيْرِهِ (وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ) بِالْوَقْفِ (وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ) فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَمْكَنَ الْوَفَاءُ بِهِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ (كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ) بِمَالٍ (وَلَوْ أَمْكَنَ فِيهِ) حَصْرُهُمْ (ابْتِدَاءً) أَيْ: فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ (ثُمَّ تَعَذَّرَ) بِكَثْرَةِ أَهْلِهِ (كَوَقْفِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّمَ مَنْ أَمْكَنَ) مِنْهُمْ بِالْوَقْفِ (وَسَوَّى بَيْنَهُمْ) فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ وَالتَّسْوِيَةَ كَانَا وَاجِبَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، فَإِذَا تَعَذَّرَا فِي بَعْضٍ وَجَبَا فِيمَا لَمْ يَتَعَذَّرَا فِيهِ؛ كَالْوَاجِبِ الَّذِي تَعَذَّرَ بَعْضُهُ (وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حَصْرُهُمْ ابْتِدَاءً كَالْمَسَاكِينِ) وَالْقَبِيلَةِ الْكَبِيرَةِ كَبَنِي هَاشِمٍ (وَقُرَيْشٍ وَبَنِي تَمِيمٍ؛ جَازَ التَّفْضِيلُ) بَيْنَهُمْ (وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ) مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالدَّفْعِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ؛ فَالتَّفْضِيلُ أَوْلَى، وَكَالْوَقْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ أَوْ عَلَى أَهْلِ إقْلِيمٍ كَالشَّامِ وَمَدِينَةٍ كَدِمَشْقَ، فَيَجُوزُ التَّفْضِيلُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ (وَيَشْمَلُ جَمْعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ) كَالْمُسْلِمِينَ (وَضَمِيرُهُ) وَهُوَ الْوَاوُ (الْأُنْثَى) تَغْلِيبًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (لَا عَكْسُهُ) وَهُوَ جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَضَمِيرُهُ؛ فَلَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ؛ إذْ لَا يَغْلِبُ غَيْرُ الْأَشْرَافِ عَلَيْهِ.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ أَوْ) عَلَى (قَرَابَتِهِ أَوْ) عَلَى (إخْوَتِهِ أَوْ) عَلَى (جِيرَانِهِ) أَوْ وَصَّى لَهُمْ بِشَيْءٍ (لَمْ يَدْخُلْ) فِيهِمْ (مُخَالِفٌ دِينَهُ)؛ أَيْ: دِينَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْوَاقِفِ أَوْ الْمُوصِي لَمْ يُرِدْ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا (إلَّا بِقَرِينَةٍ) تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِمْ فِيهِ؛ فَيَدْخُلُونَ [(كَمَا مَرَّ) وَمِنْ الْقَرِينَةِ كَوْنُ كُلِّهِمْ كُفَّارًا؛ فَيَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ دُخُولِهِمْ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ اللَّفْظِ بِالْكُلِّيَّةِ (أَوْ كَانَ مُوَافِقُهُ)؛ أَيْ: الْوَاقِفِ] (وَاحِدًا) مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ (وَالْبَاقِي مُخَالِفٌ) لِدِينِهِ؛ كَأَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا، وَفِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَاحِدٌ مُسْلِمٌ، وَالْبَاقِي كُفَّارٌ؛ فَيَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى وَاحِدٍ بَعِيدٌ جِدًّا. وَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ كَافِرًا، وَفِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَافِرٌ غَيْرُ دِينِ الْوَاقِفِ الْكَافِرِ؛ لَمْ يَدْخُلْ الْكَافِرُ الْمُغَايِرُ لِدِينِهِ كَمَا لَا يَرِثُهُ. (وَوَصِيَّةٌ كَوَقْفٍ فِي كُلِّ مَا مَرَّ) فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ الْمَسَائِلِ (لَكِنَّهَا)؛ أَيْ: الْوَصِيَّةَ (أَعَمُّ لِصِحَّتِهَا لِنَحْوِ حَمْلٍ) مَوْجُودٍ حِينَهَا، كَقِنٍّ وَأُمِّ وَلَدٍ وَمُدَبَّرٍ وَأُمِّ وَلَدٍ (وَحَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ) لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى لَفْظِ الْمُوصِي؛ أَشْبَهَتْ الْوَقْفَ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالْأَصَحُّ دُخُولُ وَارِثِهِ فِي وَصِيَّتِهِ؛ لِقَرَابَتِهِ، خِلَافًا لِلْمُسْتَوْعِبِ وَمَنْ لَمْ يُجِزْ مِنْ الْوَرَثَةِ؛ بَطَلَ فِي نَصِيبِهِ. وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِ أَمَةٍ فَأُنْثَى، وَالْعَبْدُ ذَكَرٌ. وَلَوْ وَصَّى بِأُضْحِيَّةٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَضَحَّوْا بِغَيْرِهِ خَيْرًا مِنْهُ؛ جَازَ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ بِزِيَادَةِ خَيْرٍ فِي الْمَخْرَجِ (وَيَأْتِي فِيهَا)؛ أَيْ: الْوَصِيَّةِ (بَيَانُ نَحْوِ شَيْخٍ) كَهَرِمٍ وَشَابٍّ وَفَتًى (وَكَهْلٍ وَ) بَيَانُ مَعْنَى (سِكَّةٍ وَ) بَيَانُ (الْأَقْرَبِ) وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَلْيُرَاجَعْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ كَالْوَصِيَّةِ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ أَعَمُّ مِنْ الْوَقْفِ عَلَى مَا يَأْتِي.
تَتِمَّةٌ:
وَالْمُسْتَحَبُّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ اتِّصَالُ الْمَالِ إلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ كَالْعَطِيَّةِ، وَلِأَنَّ الذَّكَرَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأُنْثَى، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَادَةِ يَتَزَوَّجُ، وَيَكُونُ [لَهُ] الْوَلَدُ، فَالذَّكَرُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَالْمَرْأَةُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ أَوْلَادِهَا، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِهِ، وَيَتَعَدَّى إلَى الْوَقْفِ وَالْعَطَايَا وَالصِّلَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْمِيرَاثِ وَالْعَطِيَّةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ: إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ كَمَسْكَنَةٍ أَوْ عَمًى وَنَحْوِهِ، أَوْ خَصَّ، أَوْ فَضَّلَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوْ خَصَّ أَوْ فَضَّلَ الْمَرِيضَ، أَوْ خَصَّ أَوْ فَضَّلَ مَنْ لَهُ فَضِيلَةٌ مِنْ أَجْلِ فَضِيلَتِهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لِغَرَضٍ مَقْصُودٍ شَرْعًا.

.(فَصْلٌ): [لُزومُ عَقْدُ الْوَقْفِ]:

(وَالْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ) بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ؛ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ كَالْعِتْقِ.
قَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ: وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ. أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ أَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ، حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ لَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا تَجَرَّدَ فِي الْحَيَاةِ؛ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ كَالْعِتْقِ. (لَا يُفْسَخُ) الْوَقْفُ (بِإِقَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا) لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ (وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُسْتَبْدَلُ وَلَا يُنَاقَلُ بِهِ) وَلَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ (نَصًّا) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ (وَلَا يُبَاعُ) فَيَحْرُمُ بَيْعُهُ، وَلَا يَصِحُّ، وَكَذَا الْمُنَاقَلَةُ بِهِ (إلَّا أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ) أَيْ: الْوَقْفِ (الْمَقْصُودَةُ) مِنْهُ (بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ) مَا يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّ الْوَقْفُ (شَيْئًا) عَلَى أَهْلِهِ (أَوْ يَرُدُّ شَيْئًا لَا يُعَدُّ نَفْعًا) بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَتَتَعَذَّرُ عِمَارَتُهُ وَعَوْدُ نَفْعِهِ (وَلَمْ يُوجَدْ) فِي رِيعِ الْوَقْفِ (مَا يُعَمَّرُ بِهِ وَلَوْ) كَانَ الْخَارِبُ الَّذِي تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَتَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ (مَسْجِدًا) حَتَّى (بِضِيقِهِ عَلَى أَهْلِهِ) الْمُصَلِّينَ بِهِ، وَتَعَذَّرَ تَوْسِيعُهُ فِي مَحَلِّهِ (أَوْ) كَانَ مَسْجِدًا، وَتَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ (لِخَرَابِ مَحَلَّتِهِ) أَيْ: النَّاحِيَةِ الَّتِي بِهَا الْمَسْجِدُ (أَوْ اسْتِقْذَارِ مَوْضِعِهِ) قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ (أَوْ) كَانَ الْوَقْفُ (حَبِيسًا لَا يَصْلُحُ لِغَزْوٍ، فَيُبَاعُ) وُجُوبًا.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَإِنَّمَا يَجِبُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَغَيْرِهَا (وَلَوْ شَرَطَ) وَاقِفُهُ (عَدَمَ بَيْعِهِ، وَشَرْطُهُ) إذَنْ (فَاسِدٌ) نَصًّا، وَعُلِّلَ بِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ؛ لِحَدِيثِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ». إلَى آخِرِهِ (وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ) إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ تَأْبِيدًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ، فَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ (أَوْ فِي بَعْضِ مِثْلِهِ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ قَالَهُ أَحْمَدُ: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ جِنْسِ الْوَقْفِ الَّذِي بِيعَ، بَلْ أَيَّ شَيْءٍ اُشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مِمَّا يُرَدُّ عَلَى الْوَقْفِ؛ جَازَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَأَمَّا الْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ مِلْكًا لِمُعَيَّنٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ فَإِذَا جَازَ إبْدَالُهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَالْمَوْقُوفُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْلَى بِأَنْ يُعَوَّضَ بِالْبَدَلِ، وَإِمَّا أَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ الْبَدَلُ، وَالْإِبْدَالُ بِجِنْسِهِ مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إذَا كَانَ يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يُوقَفُ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ- وَعَيْنُهُ مُحْتَرَمَةٌ شَرْعًا- يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ بِهِ غَيْرُهُ لِلْمَصْلَحَةِ، لِكَوْنِ الْبَدَلُ أَنْفَعَ وَأَصْلَحَ وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَعُودُ الْأَوَّلُ طَلْقًا مَعَ أَنَّهُ مَعَ مُتَعَطِّلٍ نَفَعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ الْإِبْدَالُ بِالْأَنْفَعِ وَالْأَصْلَحِ فِيمَا يُوقَفُ لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَإِنَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ يَجُوزُ مَا يُوقَفُ لِلِاسْتِغْلَالِ لِلْحَاجَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَفِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ رِوَايَتَانِ، فَإِذَا جُوِّزَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَسْجِدُ طَلْقًا وَيُوقَفَ بَدَلُهُ أَصْلَحُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْأَوَّلِ، أَحْرَى، فَإِنَّ بَيْعَ الْوَقْفِ الْمُسْتَغَلِّ أَوْلَى مِنْ بَيْعِ الْمَسْجِدِ، وَإِبْدَالَهُ أَوْلَى مِنْ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ تُحْتَرَمُ عَيْنُهُ شَرْعًا، وَيُقْصَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ؛ فَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَلَا الْمُعَاوَضَةُ عَنْ مَنْفَعَتِهِ، بِخِلَافِ وَقْفِ الِاسْتِغْلَالِ؛ فَإِنَّهُ تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَالْمُعَاوَضَةُ عَنْ نَفْعِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنْفَعَتَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا يُقْصَدُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ، وَلَا لَهُ حُرْمَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لِلْمَسْجِدِ، وَقَالَ: يَجِبُ بَيْعُ الْوَقْفِ مَعَ الْحَاجَةِ بِالْمِثْلِ، وَبِلَا حَاجَةٍ يَجُوزُ بِخَيْرٍ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ لِفَوَاتِ التَّغْيِيرِ بِلَا حَاجَةٍ، وَذَكَرَهُ وَجْهًا فِي الْمُنَاقَلَةِ وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُنَاقَلَةِ فِي الْأَوْقَافِ وَاقِعَةُ نَقْلِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَجَعْلِ بَيْتِ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ، وَجَعْلِ مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ سُوقًا لِلتَّمَّارِينَ اشْتَهَرَتْ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهَا، وَلَا الِاعْتِرَاضُ فِيهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ عُمَرُ هُوَ الْخَلِيفَةُ الْآمِرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْمَأْمُورُ النَّاقِلُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى مَسَاغِ الْقِصَّةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَيْهَا وَالرِّضَى بِمُوجَبِهَا، وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الِاسْتِبْدَالِ وَالْمُنَاقَلَةِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَسَاغِ بَيْعِ الْوَقْفِ عِنْدَ تَعَطُّلِ نَفْعِهِ؛ فَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ رُجْحَانِ الْمُبَادَلَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَطِّلًا، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي نَقْلِهِ لِحِرَاسَةِ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي جُعِلَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الثَّانِي انْتَهَى.
وَصَنَّفَ صَاحِبُ الْفَائِقِ مُصَنَّفًا فِي جَوَازِ الْمُنَاقَلَةِ لِلْمَصْلَحَةِ سَمَّاهُ الْمُنَاقَلَةُ بِالْأَوْقَافِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَأَجَادَ فِيهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى جَوَازِهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ حَمْزَةُ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: دَفْعُ الْمُثَاقَلَةِ فِي بَيْعِ الْمُنَاقَلَةِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّتِنَا جَمَاعَةٌ فِي عَصْرِهِ.
(وَ) يَجُوزُ (نَقْلُ آلَةِ) مَسْجِدٍ (وَ) نَقْلُ (أَنْقَاضِ مَسْجِدٍ؛ جَازَ بَيْعُهُ) كَخَرَابِهِ أَوْ خَرَابِ مَحَلَّتِهِ أَوْ قَذَرِ مَحَلِّهِ (لِمَسْجِدٍ آخَرَ) إنْ (احْتَاجَهَا) مِثْلُهُ- [وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ حَوَّلَ مَسْجِدَ الْجَامِعِ مِنْ التَّمَّارِينَ أَيْ: بِالْكُوفَةِ- (أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ)] لِبَقَاءِ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فِيهِ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَى مِثْلِهِ، أَنَّهُ لَا يُعَمَّرُ بِآلَةِ الْمَسْجِدِ مَدْرَسَةٌ وَلَا رِبَاطٌ وَلَا بِئْرٌ وَلَا حَوْضٌ وَلَا قَنْطَرَةٌ، وَكَذَا آلَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ، لَا يُعَمَّرُ بِهَا مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّ جَعْلَهَا فِي مِثْلِ الْعَيْنِ مُمْكِنٌ، فَتَعَيَّنَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. قَالَهُ الْحَارِثِيُّ، وَيَصِيرُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ بَعْدَ بَيْعِهِ لِلثَّانِي الَّذِي اُشْتُرِيَ بَدَلَهُ. وَأَمَّا إذَا نُقِلَتْ آلَتُهُ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ؛ فَالْبُقْعَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَسْجِدٌ.
قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ بَنَى مَسْجِدًا فَأَذَّنَ فِيهِ، ثُمَّ قَلَعُوا هَذَا الْمَسْجِدَ، وَبَنَوْا مَسْجِدًا آخَرَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَنَقَلُوا خَشَبَ هَذَا الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ. قَالَ: يَرُمُّوا هَذَا الْمَسْجِدَ الْآخَرَ الْعَتِيقَ، وَلَا يُعَطِّلُوهُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ، فَلَمْ يَمْنَعْ النَّقْلُ مَنْعَ الْبَيْعِ وَإِخْرَاجَ الْبُقْعَةِ عَنْ كَوْنِهَا مَسْجِدًا كَمَا يَجُوزُ (تَجْدِيدُ بِنَائِهِ) أَيْ: الْمَسْجِدِ (لِمَصْلَحَتِهِ نَصًّا) لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إبْرَاهِيمَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَا يَجُوزُ قَسْمُ الْمَسْجِدِ مَسْجِدَيْنِ بِبَابَيْنِ إلَى دَرْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لَهُ. (وَيَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِهِ) أَيْ: الْوَقْفِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إجَارَتُهُ (لِإِصْلَاحِ بَاقِيهِ) لِأَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَبَيْعُ الْبَعْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبَعْضِ أَوْلَى (إنْ اتَّحَدَ الْوَاقِفُ وَالْجِهَةُ) الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لَمْ يَجُزْ (إنْ كَانَ) الْمَوْقُوفُ (عَيْنَيْنِ) عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَاقِفٍ وَاحِدٍ، كَدَارَيْنِ خَرِبَتَا، فَتُبَاعُ إحْدَاهُمَا لِإِصْلَاحِ الْأُخْرَى (أَوْ) كَانَ الْمَوْقُوفُ (عَيْنًا) وَاحِدَةً؛ فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا لِإِصْلَاحِ بَاقِيهَا. وَمَحَلُّ ذَلِكَ إنْ لَمْ تَنْقُصْ الْقِيمَةُ، أَيْ: قِيمَةُ الْعَيْنِ الْمَبِيعِ بَعْضُهَا بِالتَّشْقِيصِ؛ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ بِبَيْعِ الْبَعْضِ إذَنْ، وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنًا وَاحِدَةً، وَنَقَصَتْ الْقِيمَةُ بِالتَّشْقِيصِ (بِيعَ الْكُلُّ) كَبَيْعِ وَصِيٍّ لِدَيْنٍ أَوْ حَاجَةٍ، بَلْ هَذَا أَسْهَلُ؛ لِجَوَازِ تَغْيِيرِ صِفَاتِهِ لِمَصْلَحَةٍ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَجَوَّزَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تَغْيِيرَ صُورَتِهِ لِمَصْلَحَةٍ؛ كَجَعْلِ الدَّارِ حَوَانِيتَ، وَالْحُكُورَةُ الْمَشْهُورَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِنَاءٍ بِبِنَاءٍ، وَعَرْصَةٍ بِعَرْصَةٍ. هَذَا صَرِيحُ لَفْظِهِ، وَقَالَ أَيْضًا فِيمَنْ وَقَفَ كُرُومًا عَلَى الْفُقَرَاءِ يَحْصُلُ عَلَى جِيرَانِهَا بِهِ ضَرَرٌ: يُعَوِّضُ عَنْهُ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْجِيرَانِ، وَيَعُودُ الْأَوَّلُ مِلْكًا، وَالثَّانِي وَقْفًا انْتَهَى.
وَإِنْ تَوَقَّفَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ عَلَى بَيْعِ بَعْضِ آلَاتِهِ؛ جَازَ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصُّورَةِ مَعَ بَقَاءِ الِانْتِفَاعِ.
فَائِدَةٌ:
يَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ، وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ، أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ، أَوْ انْهَدَمَ. نَقَلَ أَبُو دَاوُد أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ خَشَبَتَانِ لَهُمَا ثَمَنٌ تَشَعَّثَ، وَخَافُوا سُقُوطَهُ أَتُبَاعَانِ، وَيُنْفَقُ عَلَى الْمَسْجِدِ، وَيُبْدَلُ مَكَانَهُمَا جِذْعَيْنِ؟ قَالَ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا. وَاحْتَجَّ بِدَوَابِّ الْحَبِيسِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، تُبَاعُ، وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي الْحَبِيسِ.
قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: إذَا أَشْرَفَ جِذْعُ الْوَقْفِ عَلَى الِانْكِسَارِ، أَوْ دَارُهُ عَلَى الِانْهِدَامِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، أَوْ يُنْقَضُ تَحْصِيلًا [لِلْمَصْلَحَةِ] قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسَبَّلَةُ وَنَحْوُهَا؛ جَائِزٌ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَجْهًا وَاحِدًا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبُهُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْإِقْنَاعِ: تَنْبِيهٌ: الْخَلَوَاتُ الْمَشْهُورَاتُ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْمَنْفَعَةِ مُفْرَدَةً عَنْ الْعَيْنِ كَعُلْوِ بَيْتٍ يُبْنَى عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ وَفِي الصُّلْحِ؛ إذْ الْعِوَضُ فِيهَا مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمَكَانِ عِشْرِينَ مَثَلًا، وَدَفَعَ لِجِهَةِ الْوَقْفِ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَقَطْ؛ فَقَدْ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ، وَبَقِيَ لِلْوَقْفِ نِصْفُهَا؛ فَيَجُوزُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ الْوَقْفِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى هَذَا فَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ؛ لَا تَصِحُّ إجَارَةُ النَّاظِرِ وَلَا صَاحِبِ الْخُلُوِّ لِلْآخَرِ أَوْ مَعَهُ. وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ، لَا وَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُصَادِفَ عَيْنًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: يُؤْخَذُ [مِنْ قَوْلِ] الْإِمَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي وَقْفِ الْمَاءِ إنْ كَانَ شَيْئًا اعْتَادُوهُ، صِحَّةُ [وَقْفِهِ إذَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ] كَمَا فِي هَذَا الزَّمَنِ. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَجِدْهُ مَسْطُورًا، لَكِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَأْبَاهُ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَا يُعَمَّرُ وَقْفٌ مِنْ رِيعِ) وَقْفٍ (آخَرَ) وَلَوْ عَلَى (جِهَتِهِ. وَأَفْتَى عُبَادَةُ) مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا (بِجَوَازِ عِمَارَةِ وَقْفٍ مِنْ رِيعِ وَقْفٍ آخَرَ عَلَى جِهَتِهِ) ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ فِي طَبَقَاتِهِ، قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ قَوِيٌّ، بَلْ عَمَلُ النَّاسِ عَلَيْهِ. (وَيَجُوزُ نَقْضُ مَنَارَةِ مَسْجِدٍ، وَجَعْلُهَا فِي حَائِطِهِ لِتَحْصِينِهِ) مِنْ الْكِلَابِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَيَجُوزُ (اخْتِصَارُ آنِيَةٍ) مَوْقُوفَةٍ كَقُدُورٍ وَقِرَبٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا تَعَطَّلَتْ إلَى أَصْغَرَ مِنْهَا (وَإِنْفَاقُ الْفَضْلِ عَلَى الْإِصْلَاحِ) مُحَافَظَةً عَلَى بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اخْتِصَارُهَا؛ بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي آنِيَةٍ مِثْلِهَا؛ رِعَايَةً لِلنَّفْعِ الَّذِي لِأَجْلِهِ وُقِفَتْ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الصَّوَابُ. (وَيَبِيعُهُ)؛ أَيْ: الْوَقْفَ حَيْثُ جَازَ بَيْعُهُ (حَاكِمٌ إنْ كَانَ) الْوَقْفُ (عَلَى سُبُلِ الْخَيْرَاتِ، كَعَلَى الْمَسَاجِدِ) وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَدَارِسِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْأَكْثَرُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ، وَالْحَارِثِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَقَالَ: نُصَّ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النَّصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ عَرْصَةِ الْمَسْجِدِ: وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ، انْتَهَى.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسْخٌ لِعَقْدٍ لَازِمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَوِيًّا، فَتُوقَفُ عَلَى الْحَاكِمِ كَمَا قِيلَ فِي الْفُسُوخِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَإِلَّا يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ بِأَنْ كَانَ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، أَوْ مَنْ يَؤُمُّ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَبِيتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ (فـَ) يَبِيعُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (نَاظِرٌ خَاصٌّ) إنْ كَانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إذَا تَعَطَّلَ الْوَقْفُ فَإِنَّ النَّاظِرَ فِيهِ يَبِيعُهُ، وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ. نُصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.
قَالَ فِي الْفَائِقِ وَيَتَوَلَّى الْبَيْعَ نَاظِرُهُ الْخَاصُّ، حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ وَالْمُحَرَّرِ فَقَالَ: يَبِيعُهُ النَّاظِرُ فِيهِ (وَالْأَحْوَطُ) أَنْ يَبِيعَهُ النَّاظِرُ (بِإِذْنِ حَاكِمٍ) قَالَهُ فِي التَّنْقِيحِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعَ عَلَى مَنْ سَيَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْجُودِينَ الْآن؛ أَشْبَهَ الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ. (وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَلِ) لِجِهَةِ الْوَقْفِ (يَصِيرُ وَقْفًا كَبَدَلِ أُضْحِيَّةٍ وَ) بَدَلِ (رَهْنٍ أُتْلِفَ) قَالَ الْحَارِثِيُّ عِنْدَ قَوْلِ الْمُوَفَّقِ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ: إذَا أَوْلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ، يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا يَكُونُ وَقْفًا، ظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَدَلَ يَصِيرُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ انْتَهَى.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامٍ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ هُنَا، لِاقْتِصَارِهِمْ عَلَى بَيْعِ وَشِرَاءِ بَدَلِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، وَيَصِيرُ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ، وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا فِي الرِّعَايَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ: فَلِنَاظِرِهِ الْخَاصِّ بَيْعُهُ وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ، وَيَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ، وَقَالَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْفِ: فَإِنْ وَطِئَ فَلَا حَدَّ وَلَا مَهْرَ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي أُمِّ وَلَدِهِ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، وَيُؤْخَذُ قِيمَتُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ يُصْرَفُ فِي مِثْلِهِ يَكُونُ بِالشِّرَاءِ وَقْفًا مَكَانَهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُبْتَدِئِ: وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ وَانْعَدَمَتْ مَنْفَعَتُهُ بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يُرَدُّ [عَلَى] أَهْلِ الْوَقْفِ وَكَانَ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْمُحَرَّرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الشِّرَاءُ لِجِهَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَلَزِمَ الْعَقْدُ، أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ، وَالْوَكِيلُ يَقَعُ شِرَاؤُهُ لِلْمُوَكِّلِ، فَكَذَا هَذَا يَقَعُ شِرَاؤُهُ لِلْجِهَةِ الْمُشْتَرَى لَهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا وَقْفًا انْتَهَى، وَهُوَ الصَّوَابُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ بِمَالِ الْوَقْفِ؛ لَمْ يَكُنْ مَا اشْتَرَاهُ وَقْفًا، وَيُطَالَبُ بِالثَّمَنِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَكُونُ وَقْفًا، وَأَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا إذَا اشْتَرَاهُ لِلْوَقْفِ إلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ؛ بِأَنْ يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ (وَالْأَحْوَطُ وَقْفُهُ) لِئَلَّا يَنْقُضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَا يَرَى وَقْفِيَّتَهُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ. (وَفَضْلُ غَلَّةِ مَوْقُوفٍ عَلَى مُعَيَّنٍ اسْتِحْقَاقُهُ) [مُقَدَّرٌ] مِنْ الْوَاقِفِ (يَتَعَيَّنُ إرْصَادُهُ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَارِثِيُّ، وَقَالَ: وَأَمَّا فَضْلُ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنِينَ أَوْ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَيَتَعَيَّنُ إرْصَادُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي فَضْلِ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى نَفَقَةِ إنْسَانٍ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى إذَا كَانَ الصَّرْفُ مُقَدَّرًا، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ التَّقْدِيرِ فَلَا فَضْلَ، إذْ الْغَلَّةُ مُتَفَرِّقَةٌ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى (وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (إنْ عُلِمَ أَنَّ رِيعَهُ يَفْضُلُ دَائِمًا، وَجَبَ صَرْفُهُ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فَسَادٌ لَهُ وَإِعْطَاؤُهُ)؛ أَيْ: الْمُسْتَحِقِّ (فَوْقَ مَا قَدَّرَ لَهُ الْوَاقِفُ جَائِزٌ) لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهُ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ النَّاظِرِ صَرْفُ الْفَاضِلِ؛ لِأَنَّهُ افْتِئَاتٌ عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَتُهُ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: قُلْت: وَالظَّاهِرُ لَا ضَمَانَ، كَتَفْرِقَةِ هَدْيٍ وَأُضْحِيَّةٍ. (وَمَنْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاخْتَلَّ) الثَّغْرُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ (صُرِفَ) الْمَوْقُوفُ (فِي ثَغْرٍ مِثْلِهِ) أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ؛ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ هُنَا الصَّرْفُ إلَى الْمَرَابِطِ فَإِعْمَالُ شَرْطِ الثَّغْرِ الْمُعَيَّنِ مُعَطِّلٌ لَهُ؛ فَوَجَبَ الصَّرْفُ إلَى ثَغْرٍ آخَرَ.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: (وَعَلَى نَحْوِ قِيَاسِهِ)؛ أَيْ: الثَّغْرِ (نَحْوُ مَسْجِدٍ) كَمَدْرَسَةٍ (وَرِبَاطٍ) وَسِقَايَةٍ. صَرَّحَ بِهِ الْحَارِثِيُّ. قَالَ: وَالشَّرْطُ قَدْ يُخَالَفُ لِلْحَاجَةِ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ؛ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ. قَالَ: وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ حَوْضٍ، وَتَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا؛ صُرِفَ إلَى مِثْلِهِمَا. وَلَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ فِي يَوْمٍ مَخْصُوصٍ مِنْ السَّنَةِ، وَتَعَذَّرَ فِيهِ وَجَبَ مَتَى أَمْكَنَ. (وَنَصَّ) أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ (فِيمَنْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ فَانْحَرَفَ الْمَاءُ) أَوْ انْقَطَعَ: (يُرْصَدُ) مَالُ الْوَقْفِ (لَعَلَّهُ)؛ أَيْ: الْمَاءَ (يَرْجِعُ) إلَى الْقَنْطَرَةِ، فَيُصْرَفُ عَلَيْهَا مَا وُقِفَ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَيِسَ مِنْ رُجُوعِهِ [يُصْرَفُ إلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى؛ لِمَا تَقَدَّمَ.]
(وَمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ نَحْوِ مَسْجِدٍ) [كَرِبَاطٍ] وَمَدْرَسَةٍ وَخَانْكَاةٍ (مِنْ حُصْرٍ وَزَيْتٍ وَمَغْلٍ وَأَنْقَاضٍ وَآلَةٍ) جَدِيدَةٍ (وَثَمَنُهَا)؛ أَيْ: هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا بِيعَتْ (يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي مِثْلِهِ) فَإِنْ فَضَلَ عَنْ مَسْجِدٍ صُرِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ رِبَاطٍ فَهِيَ رِبَاطٌ وَهَكَذَا، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ (لِفَقِيرٍ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرْصَدْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْطِيلِ، فَيُخَالِفُ الْمَقْصُودَ، وَلَوْ تَوَقَّفَتْ الْحَاجَةُ فِي زَمَنٍ آخَرَ- وَلَا رِيعَ يَسُدُّ مَسَدَّهَا- لَمْ يُصْرَفْ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصَّرْفُ فِي الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنَّمَا سُومِحَ بِغَيْرِهَا حَيْثُ لَا حَاجَةَ؛ حَذَرًا مِنْ التَّعْطِيلِ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِخُلْعَانِ الْكَعْبَةِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَصْرِفٌ فَجَازَ صَرْفُهُ لِلْفُقَرَاءِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَجُوزُ صَرْفُ الْفَاضِلِ فِي مِثْلِهِ (وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ وَفِي بِنَاءِ مَسَاكِنَ لِمُسْتَحِقِّ رِيعِهِ الْقَائِمِ بِمَصْلَحَتِهِ) انْتَهَى.
(وَيَحْرُمُ حَفْرُ بِئْرٍ) بِمَسْجِدٍ، وَلَوْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ فِي الْغَصْبِ: وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ؛ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مُسْتَحِقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ، وَنُصَّ عَلَى الْمَنْعِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ (وَ) يَحْرُمُ (غَرْسُ شَجَرَةٍ بِمَسْجِدٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ) لِلْمُصَلِّينَ كَاسْتِظْلَالِهِمْ بِهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْحَفْرَ أَوْ الْغَرْسَ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ وَلَيْسَتْ الْبِئْرُ أَوْ الشَّجَرَةُ (بِبُقَعِ الْمُصَلِّينَ) وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ ضِيقٌ، يَجُوزُ (فَإِنْ فَعَلَ)؛ أَيْ: بِأَنْ حَفَرَ الْبِئْرَ، أَوْ غَرَسَ الشَّجَرَةَ (طُمَّتْ) الْبِئْرُ نَصًّا (وَقُلِعَتْ) الشَّجَرَةُ نَصًّا، هَذَا الْمَذْهَبُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ وَإِنْ غُرِسَتْ بَعْدَ وَقْفِهِ؛ قُلِعَتْ.
قَالَ أَحْمَدُ: غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، ظَالِمٌ غَرَسَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ قَلْعُهَا بِوَاحِدٍ، وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالشَّرْحِ: أَنَّهُ لِلْإِمَامِ (فَإِنْ لَمْ تُقْلَعْ) الشَّجَرَةُ؛ بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا غَارِسُهَا وَأَثْمَرَتْ (فَثَمَرُهَا لِمَسَاكِينِهِ) أَيْ: الْمَسْجِدِ؛ قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ حِلُّهُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ، أَيْضًا (وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا) لِأَنَّهَا غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَإِنْ غُرِسَتْ) الشَّجَرَةُ (قَبْلَ بِنَائِهِ)؛ أَيْ: الْمَسْجِدِ (وَوُقِفَتْ مَعَهُ) أَيْ: الْمَسْجِدِ (فَإِنْ عَيَّنَ) الْوَاقِفُ (مَصْرِفَهَا) بِأَنْ قَالَ: تُصْرَفُ ثَمَرَتُهَا فِي حُصْرٍ أَوْ زَيْتٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ (عُمِلَ بِهِ)؛ أَيْ: بِمَا عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ (وَإِلَّا) يُعَيَّنُ مَصْرِفُهَا، فَكَوَقْفٍ (مُنْقَطِعٍ) تُصْرَفُ ثَمَرَتُهَا لِوَرَثَةِ الْوَاقِفِ نَسَبًا وَقْفًا، فَإِنْ انْقَرَضُوا فَلِلْمَسَاكِينِ. (وَيَجُوزُ رَفْعُ مَسْجِدٍ) إذَا (أَرَادَ أَكْثَرُ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ) أَيْ: جِيرَانِهِ (ذَلِكَ)؛ أَيْ: رَفْعَهُ (وَجُعِلَ) تَحْتَ (سُفْلِهِ سِقَايَةٌ وَحَوَانِيتُ) يُنْتَفَعُ بِهَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِجُنُبٍ وَنَحْوِهِ جُلُوسٌ بِتِلْكَ الْحَوَانِيتِ؛ لِزَوَالِ اسْمِ الْمَسْجِدِيَّةِ. وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ؛ أَيْ الْمَسْجِدِ إلَى مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ خَرِبَ (مَعَ إمْكَانِ عِمَارَتِهِ وَ) لَوْ (دُونَ) الْعِمَارَةِ (الْأُولَى) لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ، فَجُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا.
تَنْبِيهٌ:
سُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، وَأَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتًا وَقْفًا لَهُ، إمَّا لِيَنْتَفِعَ بِأُجْرَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ لِيُسْكِنَهُ لِإِمَامِهِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْإِمَامِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ أَعْوَنَ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ مِنْ الْإِمَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِعْلُهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَنَحْوِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مَسْجِدٍ لَاصِقٍ بِالْأَرْضِ فَأَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوهُ، وَيَبْنُوا تَحْتَهُ سِقَايَةً، وَهُنَاكَ شُيُوخٌ فَقَالُوا: نَحْنُ لَا نَسْتَطِيعُ الصُّعُودَ إلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُنْظَرُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّ تَغْيِيرَ صُورَةِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوَقْفِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ؛ جَائِزٌ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْمَسَاجِدِ مَا هُوَ مُعَيَّنٌ بِذَاتِهِ إلَّا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَإِلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي تُشَدُّ إلَيْهَا الرِّحَالُ؛ إذْ هِيَ مِنْ بِنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَتْ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بَنَاهَا غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا يَتْبَعُ الْمَصْلَحَةَ، وَلَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ. (وَمَرَّ) فِي آخِرِ بَابِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ (قُبَيْلَ) بَابِ (اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ حُكْمُ تَغْيِيرِ) حِجَارَةِ (الْكَعْبَةِ) أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إنْ احْتَاجَتْ لِمَرَمَّةٍ (وَنَحْوُهُ) كَجَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلْيُرَاجَعْ، وَمَرَّ فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ مِنْ كِتَابِ (الِاعْتِكَافِ حُكْمُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ) وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَمْتَنِعُ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. خَاتِمَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْأَرْزَاقُ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ النَّقْدُ فِيمَا بَعْدُ، نَحْوُ أَنْ يُشْرَطَ مِائَةُ دِرْهَمٍ نَاصِرِيَّةٍ، ثُمَّ يَحْرُمُ التَّعَامُلُ بِهَا، وَتَصِيرُ الدَّرَاهِمُ ظَاهِرِيَّةً؛ فَإِنَّهُ يُعْطَى الْمُسْتَحِقُّ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةُ الْمَشْرُوطِ.